كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحديث: الخبر عن أمر حدث، فهو في الأصل صفة حُذف موصوفها ثم غلبت على معنى الموصوف فصار بمعنى الإِخبار عن أمر حدث، وتُوسّع فيه فصار الإِخبار عن شيء ولو كان أمرًا قد مضى.
ومنه سمي ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا كما يسمى خبرًا، ثم توسع فيه فصار يطلق على كل كلام يجري بين الجلساء في جد أو فكاهة، ومنه قولهم: حديثُ خرافة، وقول كثير:
أخذنا باكتراث الأحاديث تبيينًا

البيت.
واستئناس الحديث: تسمُّعه والعناية بالإِصغاء إليه، قال النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ** يوم الجليل على مُستأنس وَحَدِ

أي كأني راكب ثورًا وحشيًا منفردًا تسمَّع صوت الصائد فأسرع الهروب.
وإضافة {بيوت النبي} على معنى لام الملك لأن تلك البيوت ملك له ملكها بالعطية من الذين كانت ساحة المسجد ملكًا لهم من الأنصار، وبالفيء لقبور المشركين التي كانت ثمة، فإن المدينة فتحت بكلمة الإِسلام فأصبحت دارًا للمسلمين.
ومصير تلك البيوت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مصير تركته كلها فإنه لا يورث وما تركه ينتفع منه أزواجه وآله بكفايتهم حياتهم ثم يرجع ذلك للمسلمين كما قضى به عمر بين علي والعباس فيما كان للنبيء صلى الله عليه وسلم من فَدَك ونخللِ بني النضير، فكان لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حق السكنى في بيوتهن بعده حتى توفّاهن الله من عند آخرتهن، فلذلك أدخلها الخلفاء في المسجد حين توسعته في زمن الوليد بن عبد الملك وأمير المدينة يومئذٍ عمر بن عبد العزيز.
ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ولم يُعطَ ورثتُهن شيئًا ولا سألوه.
وإضافتها إلى ضميرهن في قوله: {ما يتلى في بيوتكن} [الأحزاب: 34] على معنى لام الاختصاص لا لام الملك.
قال حماد بن زيد وإسماعيل بن أبي حكيم: هذه الآية أدبٌ أدَّبَ اللَّهُ به الثقلاء، وقال ابنُ أبي عائشة: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.
ومعنى الثقل فيه هو إدخال أحَدٍ القلقَ والغمّ على غيره من جراء عمل لفائدة العامل أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل.
وهو من مساوىء الخلق لأنه إن كان عن عمد كان ضرًا بالناس وهو منهي عنه لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاد صبر المضرور، فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى، ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعليه إذا أحس بأن قوله أو فعله يُخدل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه إذ لا يُضر بأحد لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر فإن له طلبه مع أنه مأمور بحسن التقاضي، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإنه مذموم في ذاته وهو يصل إلى حدّ يكون الشعور به بديهيًا.
وللحكماء والشعراء أقوال كثيرة في الثقلاء طفحت بها كتب أدب الأخلاق.
ومعاملة الناس النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق أشد بعدًا عن الأدب لأن للنبيء صلى الله عليه وسلم أوقاتًا لا تخلو ساعة منها عن الاشتغال بصلاح الأمة ويجب أن لا يَشغل أحد أوقاتَه إلا بإذنه، ولذلك قال تعالى: {إلا أن يؤذن لكم}.
والأمر في قوله: {فادخلوا} للندب لأن إجابة الدعوة إلى الوليمة سنة، وتقييد النهي بقوله: {غير ناظرين إناه} للتنزيه لأن الحضور قبل تهيّؤ الطعام غير مقتضى للدعوة ولا يتضمنه الإِذن فهو تطفل.
والأمر في قوله: {فانتشروا} للوجوب لأن دخول المنزل بغير إذن حرام، وإنما جاز بمقتضى الدعوة للأكل فهو إذن مقيد المعنى بالغرض المأذوننِ لأجله فإذا انقضى السبب المبيح للدخول عاد تحريم الدخول إلى أصله؛ إلا أنه نظري قد يُغفل عنه لأن أصله مأذون فيه والمأذون فيه شرعًا لا يتقيّد بالسلامة إلا إذا تجاوز الحد المعروف تجاوزًا بينًا.
وعطف {ولا مستأنسين لحديث} راجع إلى هذا الأمر بقوله: {فانتشروا} فلذلك ذكر عقبه فإن استدامة المكث في معنى الدخول، فذكر بإثره وحصل تفنن في الكلام.
وفي هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمتضيف وليس ملكًا للمدعوين ولا للأضياف لأنهم إنما أذن لهم في الأكل منه خاصة ولم يملكوه فلذلك لا يجوز لأحد رفع شيء من ذلك الطعام معه.
وجملة {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم} استئناف ابتدائي للتحذير ودفع الاغترار بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسبوه رضي بما فعلوا.
فمناط التحذير قوله: {ذلكم كان يؤذي النبي} فإن أذى النبي صلى الله عليه وسلم مقرر في نفوسهم أنه عمل مذموم لأن النبي عليه الصلاة والسلام أعز خلق في نفوس المؤمنين وذلك يقتضي التحرز مما يؤذيه أدنى أذى.
ومناط دفع الاغترار قوله: {فيستحيي منكم} فإن السكوت قد يظنه الناس رضى وإذنًا وربما تطرق إلى أذهان بعضهم أن جلوسهم لو كان محظورًا لما سكت عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأرشدهم الله إلى أن السكوت الناشىء عن سبببٍ هو سكوت لا دلالة له على الرضى وأنه إنما سكت حياء من مباشرتهم بالإخراج فهو استحياء خاص من عمل خاص.
وإنما كان ذلك مؤذيًا النبي صلى الله عليه وسلم لأن فيه ما يحول بينه وبين التفرغ لشئون النبوءة من تلقي الوحي أو العبادة أو تدبير أمر الأمة أو التأخر عن الجلوس في مجلسه لنفع المسلمين ولشئون ذاته وبيته وأهله.
واقتران الخبر بحرف {إنّ} للاهتمام به.
ولك أن تجعله من تنزيل غير المُتردد منزلة المتردد لأن حال النفَر الذين أطالوا الجلوس والحديث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعدم شعورهم بكراهيته ذلك منهم حين دخل البيت فلما وجدهم خرج، فغفلوا عما في خروج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت من إشارة إلى كراهيتِهِ بقاءَهم، تلك حالة من يظن ذلك مأذونًا فيه فخوطبوا بهذا الخطاب تشديدًا في التحذير واستفاقة من التغرير.
وإقحام فعل {كان} لإِفادة تحقيق الخبر.
وصيغ {يؤذي} بصيغة المضارع دون اسم الفاعل لقصد إفادة أذى متكرر، والتكرير كناية عن الشدة.
والأذى: ما يكدر مفعوله ويسيء من قول أو فعل.
وتقدم في قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} في آل عمران (111)، وهو مراتب متفاوتة في أنواعه.
والتفريع في قوله: {فيستحيي منكم} تفريع على مقدر دلت عليه القصة.
والتقدير: فيهمّ بإخراجكم فيستحيي منكم إذ ليس الاستحياء مفرعًا على الإِيذاء ولا هو من لوازمه.
ودخول {مِن} المتعلقة ب {يستحيي} على ضمير المخاطبين على تقدير مضاف، أي يستحيي من إعلامكم بأنه يؤذيه.
وتعدية المشتقات من مادة الحياء إلى الذوات شائع يساوي الحقيقة لأن الاستحياء يختلف باختلاف الذوات، فقولك: أردت أن أفعل كذا فاستحيت من فلان، يجوز أن تكون الحقيقة هي التعليق بذات فلان وأن تكون هي التعليق بالأحوال الملابسة له التي هي سبب الاستحياء لأجل ملابستها له.
ولك أن تقول: استحييت من أن أفعل كذا بمرأى من فلان.
وعلى التقدير الأول تكون {مِن} للتعليل، وعلى التقدير الثاني تكون {مِن} للابتداء.
وظاهر كلام الكشاف يقتضي أن: استحييت من فلان مجاز أو توسع، وأن: استحييت من فعل كذا لأجل فلان هو الحقيقة.
وظاهر كلام صاحب الكشاف عكس ذلك والأمر هيّن.
وصيغ فعل {يستحيي} بصيغة المضارع لأنه مفرع على {يؤذي النبي} ليدل على ما دل عليه المفرع هو عليه.
وفي هذه الآية دليل على أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعديًا على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل لأن له أن يسامح في حقه، ولكن يؤخذ الحظر أو الإِباحة في مثله من أدلة أخرى مثل قوله تعالى هنا: {إن ذلكم كان يؤذي النبي} ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بالصراحة أو الالتزام يعزر على ذلك بحسب مرتبة الأذى والقصدِ إليه بعد توقيفه على الخفي منه وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه.
ولم يجعلوا في إعراض النبي عليه الصلاة والسلام عن مؤاخذة من آذاه في حياته دليلًا على مشروعية تسامح الأمة في ذلك لأنه كان له أن يعفو عن حقه لقوله تعالى: {فاعف عنهم} [المائدة: 13] وقوله: {ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران: 159].
فهذا ملاك الجمع بين الإِيذاء والاستحياءِ والحقّ في هذه الآية، فقد تولى الله تعالى الذبّ عن حق رسوله وكفاه مئونة المضض الداعي إليه حياؤه.
وقد حقق هذا المعنى وما يحف به القاضي أبو الفضل عياض في تضاعيف القسم الرابع من كتابه الشفاء.
فإن قلت: ورد في الحديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من البيت ليقومَ الثلاثةُ الذين قعَدُوا يتحدثون، فلماذا لم يأمرهم بالخروج بدلًا من خروجه هو.
قلت: لأن خروجه غيرُ صريح في كراهية جلوسهم لأنه يحتمل أن يكون لغرض آخر، ويحتمل أن يكون لقصد انفضاض المجلس فكان من واجب الألمعية أن يخطر ببالهم أحد الاحتمالين فيتحفزوا للخروج فليس خروجه عنهم بمناف لوصف حيائه صلى الله عليه وسلم.
وجملة {والله لا يستحيي من الحق} معطوفة على جملة {فيستحيي منكم} والمعنى: أن ذلك سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان يستحيي منكم فلا يباشركم بالإِنكار ترجيحًا منه للعفو عن حقه على المؤاخذة به فإن الله لا يستحيي من الحق لأن أسباب الحياء بين الخلق منتفية عن الخالق سبحانه: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4].
وصيغت الجملة المعطوفة على بناء الجملة الاسمية مخالِفةً للمعطوفة هي عليها فلم يقل: ولا يستحيي الله من الحق، للدلالة على أن هذا الوصف ثابت دائم لله تعالى لأن الحق من صفاته، فانتفاء ما يمنع تبليغه هو أيضًا من صفاته لأن كل صفة يجب اتصاف الله بها فإن ضدها يستحيل عليه تعالى.
والتعريف في {الحق} تعريف الجنس المراد منه الاستغراق مثل التعريف في {الحمد لله} [الفاتحة: 2].
والمعنى: والله لا يستحيي من جميع أفراد جنس الحق.
و{الحق} ضد الباطل.
فمنه حق الله وحق الإِسلام، وحق الأمة جمعاء في مصالحها وإقامة آدابها، وحق كل فرد من أفراد الأمة فيما هو من منافعه ودفع الضر عنه.
ويشتمل حقَ النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وأوقاته، وبهذا العموم في الحق صارت الجملة بمنزلة التذييل.
و{مِن} في قوله: {من الحق} ليست مثل {من} التي في قوله: {فيستحيي منكم} لأن مِن هذه متعينة لكونها للتعليل إذ الحق لا يُستحيَى من ذاته فمعنى إن الله لا يستحيي من الحق أنه لا يستحيي لبيانه وإعلانه.
وقد أفاد قوله: {والله لا يستحيي من الحق} أن من واجبات دِين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإِسلامي في إقامته، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته، وفي إبلاغه وهو تعليمه، وفي الأخذ به، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقًا راجعًا إلى غيره لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثالهم بقدر الإِمكان.
وهذا المعنى فهمته أمُّ سُليم وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على فهمها، فقد جاء في الحديث الصحيح: عن أم سَلَمة قالت: جاءت أم سُليم إلى النبي فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله: «نعم إذا رأت الماء».
فهي لم تستح في السؤال عن الحق المتعلق بها، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستححِ في إخبارها بذلك.
ولعلها لم تجد من يسأل لها أو لم تر لزامًا أن تستنيب عنها من يسأل لها عن حكم يخص ذاتها.
وقد رأى علي بن أبي طالب الجمع بين طلب الحق وبين الاستحياء، ففي الموطأ عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه؟ قال علي: فإن عندي ابنة رسول الله وأنا أستحيي أن أسأله الحديث.
على أن بين قضية أم سُليم وقضية علي تفاوتًا من جهات في مقتضى الاستحياء لا تخفى على المتبصر.
واعلمْ أن في ورود {يؤذي} هنا ما يبطل المثال الذي أورده ابن الأثير في كتاب المثل السائر شاهدًا على أن الكلمة قد تروق السامعَ في كلام ثم تكون هي بعينها مكروهة للسامع.
وجاء بكلمة {يؤذي} في هذه الآية، ونظيرها تؤذي في قول المتنبي:
تَلذ له المروءة وهي تُوذي

وزعم أن وجودها في البيت يحط من قدر المعنى الشريف الذي تضمنه البيت وأحال في الجزم بذلك على الطبع السليم، ولا أحسب هذا الحكم إلا غضبًا من ابن الأثير لا تُسوِّغه صناعة ولا يشهد به ذوق، ولقد صرف أئمة الأدب همهم إلى بحث شعر المتنبي ونقده فلم يَعُدَّ عليه أحد منهم هذا منتقَدًا، مع اعتراف ابن الأثير بأن معنى البيت شريف فلم يبق له إلا أن يزعم أن كراهة هذا اللفظ فيه راجعة إلى أمر لفظي من الفصاحة، وليس في البيت شيء من الإِخلال بالفصاحة وكأنه أراد أن يقفي على قدم الشيخ عبد القاهر فيما ذكر في الفصل الذي جعله ثانيًا من كتاب دلائل الإعجاز فإن ما انتقده الشيخ في ذلك الفصل من مواقع بعض الكلمات لا يخلو من رجوع نقده إياها إلى أصول الفصاحة أو أصول تناسب معاني الكلمات بعضها مع بعض في نظم الكلام، وشتان ما بين الصنيعين.
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا فاسالوهن مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ}.
عطف على جملة {لا تدخلوا بيوت النبي} فهي زيادة بيان للنهي عن دخول البيوت النبوية وتحديد لمقدار الضرورة التي تدعو إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها.
وهذه الآية هي شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين، وقد قيل: إنها نزلت في ذي القعدة سنة خمس.
وضمير {سألتموهن} عائد إلى الأزواج المفهوم من ذِكر البيوت في قوله: {بيوت النبي} فإن للبيوت ربَّاتهن وزوجُ الرجل هي ربة البيت، قال مرة بن مَحْكَان التميمي:
يا ربةَ البيت قُومي غيرَ صاغرة ** ضمّي إليك رجال الحي والغُربا

وقد كانوا لا يبني الرجل بيتًا إلا إذا أراد التزوج.
وفي حديث ابن عمر: كنت عزبًا أبيت في المسجد.
ومن أجل ذلك سَموا الزفاف بناء.
فلا جرم كانت المرأة والبيت متلازمين فدَلت البيوت على الأزواج بالالتزام.